٢٠١٠-٠٣-١٩

أنا .. الإنتخابية و الجيران


لا أعتقد أن هذا الشخص يعيش في مصر الآن أو يرى ما بها من ازدهار في مجال حرية الرأي و التعبير
و الدليل..لن يرهقك كثيرا إن أنت مشيت في شوار مصر و حواريها لترى كمية الكتب و الجرائد و المطبوعات ناهيك عن محطات التلفاز و الراديو كلها تنتقد في أداء الحكومات و الرؤساء دون أي اعتراض أو توقيف، فالناس تسب الحكومة و الرئيس في اليوم العادي اثنى عشرة مرة و في أيام الكوارث الطبيعية و البشرية المتوالية على مصر فإن السباب يكون قبل الأكل و بعده خمسة عشر مرة على أصابع اليد اليمنى .
كل ذلك دون أن يدخل أحدهم السجن أو يوقف أو يتهم بفعل لم يفعله كما كان يحدث في العصور الماضية ، و كل ذلك و لم نسمع يوما عن ثورة قامت هنا أو محاولة لقلب نظام الحكم قامت هناك ، فالشعب لا يزال يحفظ الجميل لرئيسه الذي قاد في يوم من الأيام قواته الجوية لتحرير الأرض .
صحيح أن هذا الشعب نفسه قد ثار من قبل على الرئيس الذي كان صاحب القرار في الحرب و صحيح أن ذلك القائد قد قتل بيد واحد من الشعب ، إلا أن الشعب بعد أن فقده شعر بالذنب و قرر أن يحافظ على أي شئ أو شخص من رائحة أكتوبر ذلك النصر العظيم ..و الأخير أيضا




يومها ذهبت مدفوعة بجرعة الحماس التي تأتينى من كل مكان بأن صوتي أمانة و حتى يكون لي حق انتخاب من أفضل فلابد أن تكون لي من الأصل "بطاقة انتخابية " الأمر سهل و بسيط فقط مشوار لن يستغرق خمس دقائق في قسم الشرطة الذي سوف يستقبلك الناس فيه بكل ود و ترحاب و تعاون ، صحيح هناك بعض السليين الذين شككوا في مصداقية هذا الحديث إلا أن كلمات المسئولين و شباب الأمل أعطوني الدفعة كي أكون أكثر ايجابية و تفاعلا مع هذا الجو المشحون بالطاقة و التفاؤل.

بالفعل وصلت للقسم في ميعاد مناسب فوجدت صفا طويلا من البشر ..كلهم جاءوا لاستخراج البطاقات الانتخابية رجلا و نساءا ، كانت هيئة الصف تبعث في النفس البهجة و التفاؤل ، كل هؤلاء يدفعهم الحماس و الخوف على مصلحة الوطن مثلى؟ كل هؤلاء قد شعروا بالأمان بالشكل الكافى الذي جعلهم يجيئون لقسم الشرطة بأنفسهم دون خوف أو قلق إثباتا منهم لحب الوطن، حتى هذه السيدة التى في عمر والدتي جاءت فقط من أجل أن تكون إيجابية و تدافع عن حقها في انتخاب من تريد.
كان شكل هذه المرأة المحجبة التى تبدو في الخمسين من عمرها منهكة تقف في طابور الرجال -لعدم وجود طابور للسيدات- تتحمل كل ذلك كافيا لمحو أي شك داخلى أن الشعب في مصر يثق ..بل و يؤمن أيضا بالحرية و الديموقراطية.

وقفت في آخر الطابور أو في منتصفه ، لا أدري ، فالطابور في مصر ليست له أبعاد أو أشكال محددة ، لا بأس فكلها شكليات لا تؤثر على المضمون كثيرا ، و بينما أنا واقفة أستكشاف الأمر جاءتني شابة في العشرينات من عمرها صغيرة الحجم محجبة تلبس بنطلون جينز و قميص بني اللون فسألتني بابتسامة مصطنعه : " انتى جاية تطلعي بطاقة انتخابية؟"
فأجبتها باستبشار : " أيوة"
في بداية الأمر ظننتها محامية متطوعة من شباب المعارضة جاءت لتساعدني كي أحصل على حقوقي كاملة و لكن ظني تلاشى عندما وجدت العسكري يعاملها بلطف و يسمح لها بالتعامل مع الجمهور بشكل عادي .
لم تعطنى الفتاة أية فرصة للاندهاش أو الاستفهام بادرتني :"فين بطاقتك؟"
و فور أن أخرجتها من الشنطة مشيرة إليها بها كانت البطاقة في يدها و هي تمشي مسرعة قائلة لي " تعالى معايا"
تبعتها في اندهاش فخرجنا من باب القسم و عبرنا الشارع المزدحم حتى وصلنا إلى مكتب التصوير المقابل للقسم ، أعطت البطاقة للشاب الذي كان يقف في مكتب التصوير ، أخذ الشاب البطاقة بطريقة روتينية دون أن ينطق ببنت شفة ثم صورها و أعطاها الصورة و الأصل.
أخرجت البنت نقودا و أعطتها للشاب فأخرجت بدوري نفس المبلغ كي أعطيه إياها فرفضت بشدة ثم تابعتني بلهجتها المتسرعة :"تعالي معايا بسرعة".
تبعتها بخطوات سريعة فدخلنا القسم مرة أخرى ، دخلت إلى غرفة كان يجلس بها عسكري على مكتب متهالك فطلبت منه ورقة النموذج ثم خرجت ممسكة اياها و قالت لي :"تحبي أملألك النموذج أنا؟"
هنا كنت قد ضقت ذرعا من تسرعها فسألتها :" هو انتى أصلا بتساعديني ليه؟ انتى تبع مين؟"
- " أنا تبع دكتورة نادية"
*" دكتورة نادية مين؟"
- " دي واحدة من المرشحين لمجلس الشعب"
استفهمت الأمر فقلت لها :" اااه ... بس أنا مش هرشح حد ماعرفوش "
- " دي كويسة جدا على فكرة و بتساعد الناس "
* " الكلام ده سابق لأوانه ، لما الانتخابات تيجي ابقى اشوف برنامجها و لو اقتنعت بيها ممكن أرشحها لكن بالطريقة دي..لأ"
- " لا طبعا براحتك ..احنا بس بنحب نساعد الناس ، املى انتى النموذج و أنا هستناكي "
ملأت النموذج على عجل حتى أذهب بعيدا عنها و عندما انتهيت منه تبعتني حتى ضقت ذرعا بها فهممت أن أصرخ في وجهها أن " ابتعدي عني فأنا لن أرشح الدكتورة نادية و إن كانت ملاكا بأجنحة" و لكنى بالطبع لم أستطع قول ذلك فقد بادرتني هي كالعادة بقولها :"بصي هتقفى في الطابور ده و لما تدخلى الظابط هيختملك و بعدين تدخلى المكتب اللى جنبه تاخدي رقم و بعدين تديهولي"
*" و اديهولك ليه؟"
- "علشان ابقى استلملك البطاقة "
لم أفهم شيئا منها و لم أرد أن استوضح منها حتى فتركتها ووقفت في الطابور ، و في أثناء انتظاري دخلت فتاة في الثامنة عشر من عمرها تلبس ملابش ضيقة أنيقة شعرها قصير وجهها تملأه المساحيق ، حين تراها تدرك من أول وهلة أنها طفلة تحاول أن تثبت للناس أنها أصبحت شابة و جميلة أيضا.
دخلت الفتاة القسم فعرفها العسكري الواقف على باب القسم ثم قال لها بابتسامة " انتى بنت الدكتورة نادية ، طيب ادخلى"
استقبلتها البنت التى كانت تلاحقني قائلة : " انتى اتأخرتي ليه؟"
_ " أنا لسة يادوب جاية من الجامعة"
- " طيب اقفى معاها هتديلك رقم ابقى اديهولي"
كانت تقولها مشيرة إلى بينما أنا اتميز غيظا من لزوجة بعض البشر حتى رن هاتف الفتاة الصغيرة فأجابت على الفور :
_" ايوة يا مامي..أيوة أنا وصلت ..الناس كلهم هنا عرفوني..لأ داليا وقفتني مع واحدة علشان آخد الرقم بتاعها و راحت هي مع ناس تانية..ماتقلقيش يا سيادة النايبة هههه.. مبروك مقدما يا ماما"
أغلقت البنت هاتفها ثم جائني صوت العسكري الواقف على باب الغرفة التى كنا نقف أمامها :"دورك ..اتفضلي"
دخلت المكتب و ختمت الأوراق من الضابط الذي لم يعر اهتماما بتلك التى تتبعني ثم خرجت من المكتب و دخلت المكتب المجاور ، أعطاني الموظف الذي لم يكن يلبس زيا عسكريا ورقة صغيرة مكتوب فيها رقم كل هذا و الفتاة الصغيرة تتبعني كظلي فسألت الموظف:" هو أنا هعمل ايه بالرقم ده؟"
^" انتى مش عارفة هتعملي ايه ؟ هو انتى جاية تبع مين؟"
*" تبع مين ازاي؟"
^" يعني تبع مين من المرشحين"
*" لأ أنا مش تبع حد ..أنا جاية لوحدي"
^" معقولة..انتى تقريبا أول واحدة تيجي النهاردة مش تبع حد من المرشحين "
*" طيب حضرتك ما قلتليش أعمل ايه بالرقم؟"
^" مفيش يا ستى ...هتيجي في نص مارس تستلمي البطاقة الانتخابية بالرقم ده"
*" شكرا"
^" بقولك ايه يا بنتى"
*" نعم يا حاج"
^" صوتك أمانة ..ماتديش الرقم ده لحد من اللى برة ..و ماتنسيش بقى نص مارس"
أجبته بابتسامة :" حاضر"

أنا لست مخضرمة في أصول الأقسام لكنني عندما خرجت من مكتب هذا الموظف كنت موقنة بأن هذا الرجل لم يكن يوما عسكريا ..لهجته الحانية التى تشبه لهجة أبي ، ملابسه و هيئته المعتاده للموظف المصري ذو النظارة السميكة و البدلة الشتوية ذات الألوان الترابية ، كل هذا يجعلك تشعرانه ربما أبوك أو عمك ، شخص تعرفه جيدا يعطيك نصائح ربما هو نفسه لا يعمل بها لكنه يجد فيك الأمل الآتى كي يحقق أحلامه التى انتظرها سنوات طويلة دون أن تأتي.
ذكرني مظهره بتلك المرأة التى كانت تقف في الطابور منذ دقائق ، و بينما أنا في طريقى إلى باب القسم لمحتها عيني ، كانت لازالت واقفة في الطابور لا أدري لم ، ربما هي أفعال الطوابير في مصر التى لا تحمل أشكالا و لا أبعادا محددة، كانت تتصبب عرقا و تتحدث مع العسكري الواقف بجوارها لم أسمع من حديثها شيئا إلا تلك الجملة :
" أنا و الله ماليش في السياسة و الحاجات دي ، ده أنا حتى لسة جاية من الشغل و تعبانة و عايزة اروح ، لولا انه جارنا ما كنتش جيت ، مش الجيران بردو لبعضيها؟"
خرجت من قسم الشرطة و قد زاد يقيني بوجهة نظري القديمة
- أن الشعب يثق بل و يؤمن ..بأن النبي وصى على سابع جار خاصة لو كان مرشحا لمجلس الشعب-