٢٠٠٩-١٠-٠٤

بارانويا


"أنا ....سيد هذا الحي بأكمله"
لا يغركم مظهري المهمل ..فهذه ملابس العمل ... و لا يغركم جسدي الضئيل ...فقوتي و سلطتى مختزنتين في عقلي ...أنا أدير هذا الحي في الخفاء ... لا أحد يعلم دبيب النمل فيه مثلي
عندما أتيت إلى حي المغربلين منذ ثلاثة سنوات لأعمل في عطارة الحاج فوزي لم تكن العطارة بهذا الشكل و لم يكن الحاج فوزي قد افتتح الفرع الآخرفي حي الحسين بعد ...كان دائم المكوث في المحل و لم أكن أنا على كل ذلك العلم الغزير بأحوال و طبائع الحي و سكانه بل و السائحين القادمين له من كل مكان
ثلاثة سنوات كانوا كافيين لأن أتعلم أربع لغات غير العربية و أن أتعلم وصفات الطب و السحر و فك الأعمال السفلية ...ناهيك عن أنني كنت أحد الأفذاذ في مادة الكيمياء في الثانوية العامة قبل أن اترك الدراسة و آتي للعمل هنا في هذه العطارة ...ألم أقل من قبل أنني مختلف
هم لا يعلمون ...لذا فأنا اتصرف في أمورهم بحرية كبيرة ... اتغلغل في تفاصيل حياتهم بشكل غير ملموس ...أحركهم كالعرائس كما يحرك الحاوي العرائس القطنية في المولد
" واد يا جعفر ... ابعتلى نص كيلو كمون مع سعيد"
" حاضر يا أم سعيد"
أجل أنا هذا الجعفر الذي تناديه تلك البدينة الخرقاء ...تبا لهم جميعا يعاملونني كالصبي رغم أنني تخطيت العشرين منذ حوالي شهرين ...حتى شاربي العريض الذي أطلقه كي يعرفون سني لا يمنعهم أن ينعتوني بصفات الصبية و عمال المحال كل ذلك لأن جسدي صغير نحيل... هم بسطاء لدرجة أنهم لا يعرفون كم أتحكم في حياتهم ... بسطاء بحق
" رشة من ورق الليمون المجفف على البخور الهندي العتيق ستأسر قلوب سكان الحي و السائحين"
لا تتعجبوا ..فأنا أعرف تأثير تلك الرائحة على كل فرد منهم ... ستسري الرائحة في الشارع الضيق الطويل و سيتعرج طريقها بتعرجاته و انحنائاته ....ستدخل من فتحات المشربية التى تجلس ورائها هند طالبة الحقوق في الدور الثاني التى تحب ا/ ماهر مدرس اللغة العربية الأرمل الذي يعول اثنين من الولاد ... ستفتح المشربية كي تسمح للرائحة أن تملأ غرفتها ثم تلقى نظرة على الدور الثالث في البيت المقابل علها تجده ثم تغلق المشربية بميل مرة أخرى كعادتها
ستسري الرائحة أيضا حتى تطال أم عماد في البيت التالى ...أم عماد بطبيعتها شريرة لا تحب الخير لأحد و أنا أتعامل معها كما يليق بشيطان صغير أعطاه الله أسرار الأعمال السفلية و تراكيب السحرة المخضرمين ... ستتذكر أم عماد أنها لم تقم اليوم برش المياة الممزوجة بالخلطة التى اعطيتها اياها منذ اسبوع لترشها أمام بيت أم أنور جارتها الثرية التى تدعي الفقر زوجة الحاج عبيد صاحب محلات القماش ..
ستخرج أم عماد على الفور لتلقى بالجردل أمام بيت أم انور المقابل لبيتها ثم تدخل على الفور

أم أنور أيضا تعتمد على الخلطة القديمة التى أعطيتها اياها منذ سنة و هي تستخدمها كبخور للتحصين ...إلا أنها لا تعلم أن خلطة أم عماد مفعولها أقوى شريطة أن تمر هي عليها سبع مرات

اليوم هو اليوم السابع لكن أم أنور لم تخرج من بيتها منذ يومين الأمر الذي سيؤجل النتيجة التى انتظرها بفارغ الصبر... يبدو انها قد رأت ام عماد و هي ترش المياه في احد المرات
من المؤكد أن الحي سيقلب رأسا على عقب بعد أن تكتشف أم أنور ما فعلته جارتها ...ترى بأي ضرر سيأتى العمل على بيت أم أنور ... هل ستتحطم سيارة الحاج أم ستطلق ابنته التى لم تتم عامها الثاني في الزواج ... سنرى ..أيا كان الأمر فيدي الحريرية لن تخرج منه ..

عموما ...على أن أرقب جيدا فربما خرجت أم أنور اليوم و ينتهي فضولي و أرى ثمرة ما فعلت

في وسط النهار يأتيني أ/ماهر تتصبب وجنته البيضاء بالعرق ممسكا شنطته عائدا من المدرسة و في يده احد أولاده يسألني
:
-
" ما عندكش حاجة للصداع يا جعفر ...بقالى يومين دماغي هتنفجر"
أفرغ له بعض الأعشاب في كيس صغير و اعطيه له قائلا :
- " اغليه و سيبه يبرد و اشرب منه كوباية كل يوم .. و ادعيلي"
- " حسابك كام"
- " خلى يا أ/ماهر، تلاتة جنيه و نص"
- " ماشي يا سيدي بس لو الصداع ماراحش هاجي اخدهم منك "
- " هيروح ان شاء الله"
كم هو طيب ساذج هذا الأستاذ لازال يشك في وصفاتي بعد كل هذه التجارب ... إذا غدا يعرف كما بقية الحي كم لعبت بحياتهم

أما عن أم أنور ... لم يزل باب بيتها الحديدي مغلق كما سجن تحبس نفسها فيه خوفا ...تستعين على الأعمال برائحة البخور الرخيص التى ملأت الشارع الضيق بها حتى غطت على رائحتى ...هذه المرأة تستجدي عدائي دون أن تشعر ..تبا للسذاجة... لو اتتني تلك المرأة لأعطيتها خلاصة لم أعطها لأحد من قبل حتى تبطل سحر أم عماد الشريرة و ترده عليها وبالا ...لكنها لم تأت ..إذا فأبق في صف تلك الحيزبون أم عماد حتى نرى ماذا سيحدث
في المساء يأتي أبو أنورينزل من سيارته معتدلا ببنيته القوية لم يمسه سوء ...سيارته كما هي ..ابتسامته لا تفارق وجهه الممتلئ .. يفتح الباب المغلق من الصباح و يدخل في سلام ..متى اذا يعمل السحر؟؟

في الغد تتكرر كل الأشياء .. أغمر أنا حي المغربلين العتيق برائحة البخور المنبعثة من العطارة لتصل إلى آخر الحي .. يتفاعل معها أهل الحارة كعادتهم ... تخرج أم عماد لتلقى بالمياه .. وحدها أم أنور لا تتفاعل مع الأمر إلا بروائح البخور الرخيصة
إلا أن شيئا ما يحدث
فأ/ ماهر يبدو عليه الإعياء يوما بعد يوم ... فبعدما كان يشكو من الصداع ، هو الآن يأتينى كل يوم ليشكو من أمر جديد ... فتارة يشكو من وجع المعده و تارة يشكو من القاولون و تارة يعاوده الصداع ... سبعة أيام متواصلة حتى انقطع عن العطارة ....يبدو أنه قد فضل الطبيب ... هكذا المتعلمون ... لايثقون في أعشابنا و ان اظهروا لنا العكس
-" خير يا أ/ ماهر عملت ايه عند الدكتور"
قالها الحاج سيد و كأنما يتعمد أن يقولها بصوته العالى كي يقرع آذاني بها...
- " مفيش قالي ماعندكش حاجة"
- " طب و انت حاسس بايه دلوقتي"
- " بطني بتتقطع من التعب يا حاج سيد"
خرجت من المحل بعدما شعرت ان الطبيب خذله ليعود لي مرة أخرى فقلت له
" الاعشاب دي هتريحلك معدتك يا أ/ماهر و ماتاكلش من برة"
- " و لا من بره و لا من جوة يا جعفر هو المرض مخليني عارف آكل حاجة؟ ده حتى الدكتور بيقولى ان عندي تعب نفسي"

"نفسي " لم تمر الكلمة على أذني مر الكرام ...فنحن المشعوذون لنا تراجمنا الخاصة لكلمة نفسي عندما يقولها الطبيب ... اذا فهذا الرجل " ملبوس" ...أه ... هل فعلتها أنا دون أن أدري؟؟ أجل ان أ/ ماهر يخرج كل يوم في نفس توقيت رش المياة الذي تقوم به أم عماد ... و هو بطبيعة الحال يمر على بيت أم أنور في طريقة للعمل... آه لقد خانني شيطاني اللعين و فعلها بذلك الرجل المسكين "
" لابد أن أفعل شئ " حدثت نفسي طيلة الليلة ...لم أنم طوال الليل لأفكر بهذا المأزق الذي وضعني فيه شيطاني بمعاونة شيطان أم عماد
جالت بذهني كل الافكارحتى اعين ذلك الرجل المسكين ... ترى هل اعطيه الدواء في صورة اعشاب كالعادة .. و لكن الدواء هذه المرة قد يكشف أمري ...أنا أعلم تركبيه جيدا ... هذا العشب الذي يخرج الأرواح الشريرة لابد له من أن يجعل المريض ينبس بحقائق لم يكن أحد يعرفها ... و ربما تمتم أ/ماهر بحقيقة الأمر و فضحت أنا على مرأى و مسمع من الحي كله ...لا ليس الآن وقت أن يعرفوا ...سيكون خطئا كبيرا
اذا ...اتركه ليلقى مصيره ... و ما الذي وضعه في هذا المأزق غير انه ساذج لا يأخذ حذره ....لا لا انا الذي فعلتها بمعاونة تلك العجوز الشريرة ..لن اتركها تنام في بيتها هانئة هي و غريمتها و هذا المسكين يتضور ألما حتى و ان كان ساذجا مثلهم ... الأمر محير بحق...
و مع نور الصباح بينما تتسلل اشعة الشمس على استحياء تتلمس طريقها في حي المغربلين كانت الفكرة كانت قد تبلورت في ذهني
" و لم لا... أجل .. سأفعلها و إن كلفنى الأمر الكثير ... سأنتقم منهم جميعا و انقذ ذلك الرجل المسكين"
فتحت أبواب المحل ... أخذت في رص الأشولة خارج المحل كعادتى ... الكل نيام لا يزالون ... لم يخرج أحد من الحي بعد ... سأطهركم و أطهر نفسي من كل الأرواح الشريرة التى تحوم بنا ....
أحضرت وعاء البخور الكبير و وضعت فيه البخور الهندي باهظ الثمن حليته بأوراق الليمون المجفف ... ثم أشعلت النار فيهما ... انبعثت الرائحة كعادتها و لكن قبل أن تصل إلى البيوت كنت قد شبعتها بالعشب الذي سيداوي ا/ ماهر ... أجل سيطيب الرجل الآن ... سيهذي بأشياء كثيرة ربما منها أنني أنا الذي وضعت له السحر في الطريق .. أجل سيسمعه الجمع و هو يقول ذلك و لكن لن يلتفت اليه أحد ...أتدرون لم؟ ... لأنهم جميعا سيهذون مثله ... ستخرج من هذا الحي كل أسراره الدفينه طيلة سنوات على لسان سكانه
ستعترف أم عماد أمام الجميع انها كانت تدبر المكائد لأم أنور و ستقولها هند لأ/ ماهر أمام كل الناس أنها تحبه و سيروي عم سيد كيف كان يسرق بيوتهم في شبابه ... سيندهش الجميع و لكنهم لن يتذكروا شيئا واحدا ...سيقضون يوما كاملا من الهذيان الممزوج بالحقيقة ...سيتطهر الجميع مع كل نسمة يتنفسونها من رائحة أعشابي .... سأفعل بهم كل هذا دون أن يشعروا
...
و سيأتون غدا كصفحات بيضاء لينعتوني مرة أخرى بصفات الصبية دون أن يعرفوا كم أنا عظيم .......