٢٠١٥-١٢-١٥

خمسة أشياء لن تحظى بهم هيزيل جريس المصرية



هيزيل جريس ،بطلة فيلم "الخطأ في نجومنا" ، فتاة أمريكية في الثامنة عشر من عمرها مصابة بسرطان الرئة منذ أن كان عمرها ثلاثة عشر عاماً تتعرف على حبها الأول أوجستس في جلسة لدعم مرضى السرطان فهو أيضا مريض بالسرطان و قد فقد إحدى قدميه نتيجة لذلك ، يعيش الاثنان قصة حب مختلفة مغلفة بالألم و لكنها ناضجة نضوج المدركين لأن كل يوم يعيشانه سويا قد لا يتكرر، فبرغم جهاز التنفس الذي تتحرك به هيزيل و الساق الصناعية لأوجستس فإنهما قد اتخذا قرارهما بالاستمتاع بالحياة.
يفاجئ أوجستس هيزيل بأنه قد رتب لهما رحلة لأمستردام حتى تلتقي بكاتبها المفضل الذي كانت تتمنى مقابلته لتناقشه في روايته الأخيرة و ينجح الشابان في التغلب على الصعاب التي قد تواجهها هيزيل نظرا لحالتها الصحية ليجدا في أمستردام العديد من المفاجأت التي تغير وجهة نظر هيزيل في كثير من الأمور.
و بنظرة أبعد من قصة الفيلم دعنا نتخيل ماذا لو كانت هيزيل جريس مصرية أو على الأقل تعيش في مصر؟ ما هي المعوقات التي قد تحيد القصة الأصلية للفيلم عن مسارها تماماً :
  1. هيزيل المصرية لن تستطيع الإنتقال بحرية بجهاز التنفس :
في أحداث الفيلم كانت هيزيل تتحرك بحرية بجهاز التنفس الذي تحمله على ظهرها أو تجره بيدها موصل بأنفها ، هل لك أن تتخيل كم المضايقات التي قد تتعرض لها فتاة مصرية بهذا العائق في وسائل المواصلات العامة التى لا تنجو الفتاة الصحيحة فيها من تحرش أو مضايقات لفظية على أقل تقدير ، و إن نجت من المضايقات هل ستنجو من نظرات الفضول و أسئلة الناظرين؟ لا أظن.
  1. لن يسمح لها بالتعرف على أوجستس من الأساس :
بالطبع أقدر خوف كل أم على ابنتها من أن يكسر قلبها شاب مستهتر خاصة لو كانت هشة صغيرة يضعفها المرض ، و لكن أم هيزيل الأمريكية كانت من النضوج أنها رحبت بتعارف ابنتها على شاب مادام الأمر سيكون تحت أنظارها هي و والدها خاصة أن أوجستس كان مريضاً أيضاً مما يجعل التفاهم بينهما أمر غير معقد.
  1. لن تتمكن من الحصول على الموافقة على السفر من فريقها الطبي:
حسناً ، دعنا نفترض أن لهيزيل المصرية فريق طبي قد يكرس من وقته الثمين اجتماعا لبحث إمكانية سفر هيزيل المريضة بسرطان في مرحلة متقدمة رحلة هدفها الاستمتاع فقط ، هل هذا متاح في مصر؟ مع تردي أوضاع الأطباء الذين يلهثون ليلحقوا بركب الحياة الذي لا يرحم من ناحية و بين إنقاذ أرواح ملايين المرضى وسط أجواء اقتصادية و إدارية و تنظيمية هي الأسوأ بجدارة؟ أترك الإجابة لك.
 4-البيروقراطية و الشئون الإدارية و أشياء من هذا القبيل :
فعلتها هيزيل و تحققت كل المعجزات السابقة و ها هي الآن في مطار القاهرة متجهة إلى أمستردام ، و لكن شيئا ما بالتأكيد سيعيقها ألا و هو الخوف و الإجراءات المشددة على الطيران ، فجهاز الأكسجين الذي تحمله بالطبع ممنوع على متن الطائرة و لا توجد بدائل و مظفوا شركات الطيران لا يملكون من الصلاحيات ما يجعلهم يتخذوا القرار أو يتحملوا تبعاته ، سيصعد الأمر إلى المديرين إن وجدوا في أماكنهم و لكن العثور عليهم و اقتناص موافقاتهم سوف يضطر الطائرة لأن تقلع بدونها بالتأكيد.
5 –لن يتمكن ذووها من تلقي الدعم النفسي اللازم :
في مشهد من المشاهد الرئيسية في الفيلم كانت هيزيل الأمريكية تعبر لأمها عن سبب خوفها الأكبر من الموت و هو أن يسبب ذلك فقدان أمها للرغبة في الحياة و فقدها للقب الأم للأبد ، لكن أمها تفاجئها بجوابها أن فقدانها سوف يكون مؤلما كالجحيم لكنها تعرف جيداً –لأنها مرت بألم السرطان – أن الإنسان يستطيع العيش مع الألم .
كانت هذه واحدة من أقوى  الدروس التى يعلمنا إياها الفيلم و هي أن الفقد لا يفترض أن يوقف حياة الأحياء مهما كان عظيماً و مؤلماً ، لكن والدة هيزيل لم تكن تفكر بهذا المنطق من قبل ما جعل هيزيل تتعجب لتعرف بعدها أن أمها تتلقى دروساً للدعم النفسي الخاص بأهالي مرضى السرطان.
في مصر يتلقى بعض مرضى السرطان -ميسوري الحال فقط- جلسات للدعم النفسي لتخطي الألم و التغيرات المصاحبة لمراحل العلاج ، لكن رفاهية تلقى جلسات الدعم النفسي لأهالي المرضى لم تعرف طريقها إلى مصر بعد مما يزيد آلام هيزيل المصرية و نظرائها ممن يمرون بهذا الاختبار الصعب ، فمن المعروف أن هذا المرض يعوزه بالأساس قوة داخلية و إصراراً نابعاً من داخل متلقي العلاج و هو أمر يزداد صعوبة كلما كان الجو الأسري المحيط ملئ بالحزن و الإنهزام النفسي و الأفكار السلبية.
و أخيراً ،أتمنى لكل أشباه هيزيل ممن يحاربون هذا المرض الصعب انتصاراً ساحقاً في أي بقعة من بقاع الأرض و لكن بلدانا بعينها تحتاج إلى ما هو أكثر من الدعاء، تحتاج معجزات لا تصنعها الملائكة بل يصنعها العلم و العمل و الإرادة في تخفيف آلام المحاربين.

٢٠١٥-١٠-٢٥

يا أبي.. كتابك الضخم لازال في موضعه



في فترة أوج التدوين عندما كنا عددا محدودا يكاد يعرف بعضه بالعدد ، كانت هناك تلك الصديقة المدونة التي لا تكتب إلا عن أبيها الراحل ، أحببته من خلال كتابتها عنه ، كنت أقول لنفسي أنه لابد رجل صالح أن تأثرت به ابنته هذا التأثر البالغ الذي يجعلها لا تكتب إلا عنه ، كنت أتابعها بالشهور لا تمل من الحديث عن أبيها و نوادر أبيها و مواقفه ، كانت تربط كل حدث في الحياة به إما 
حاضرا أو ماضي،.

و لكني بعد فترة من المتابعة كنت أتسائل بيني و بين نفسي هل هذه ميزة أم عيب؟ ألا يرى الأبناء الحياة إلا من خلال آباءهم حتى و إن كانوا عظماء فمن المفترض أن لكل حياته و طريقته  و أسلوبه المتفرد ، لا اخفى أنني كنت أحيانا كثيرة أشفق عليها من هذا الحبس الذي تجلس فيه مستمتعة و مصبرة نفسها عن فراقه بالحديث عنه و لكن حياتها تضيع في المقابل دون أن تعيش تجربتها الخاصة بها وحدها.

و مات أبي منذ ما يقرب من ثلاث سنوات ثم أدركت ما كانت هي فيه ، حقا لا يعرف الشوق إلا من يكابده.

قد كنت من قبل أنكر عليها هذا التوحد فغرقت فيه أنا ، فهأنذا لا أنام إلا في سريرك يا أبي منذ رحلت و هأنذا لا أعرف للحديث طعما إلا إذا عرجت فيه على سيرتك و هأنذا أتلمس مواضع أقدامك في كل ما أخطو.
و كأن روحك لم تكن روحا واحدة و إنما أربعين روحا، أحدهما تتجول بين عقلي و قلبي و روحي ، تملي على الأفعال و الأقول  و تغذيني بالخيارات  التي لم تكن لتبخل علي بها إن كنت معي ،  و روحا أخرى تتجول في ملكوت الله و أرواحا أخري كثيرة تزور أحبابك و تلاميذك الذين علمتهم الكثير ترشدهم و تطمئن قلوبهم ليطمئنونا.

و لكن وخزا آخر في الضمير لا يلبث يتركني حتى يعود ، فأنا لست أنت و لن أستطيع ، صحيح أن حياتك تلهمني و لكن هيهات لي أن أصل إلى جزء ضئيل من إخلاصك و  تفانيك فيما تحب ،.
فهل تشفع لي يا أبي رشفاتي من عطر ملابسك الذي لم يغادرها و التي لازالت معلقة من يومها حتى الآن أنفض عنها الغبار كلما أتاها و أتنسم  عطرها فأجده كما هو و كأنك تؤكد وجودك و تنفي غيابك المزعوم!
و هل تشفع لي كتبك الضخمة التي أصبحت أقرؤها مستعيضة بها عن كتبي البسيطة الرقيقة؟ هل يشفع لي إصراري أن أضعها بجوار السرير تماما كما كنت تفعل حتى لا أغير كثيرا في ترتيب غرفتك؟ و هل يمحو ذلك اضطراري لأن يمتلأ الكومودينو الخاص بك بتوك الشعر و سلوك شواحن الموبايل عوضا عن أقلامك الثمينة و دفاترك القيمة؟!
أعرف أن هذه الأشياء تبدو تافهة بالنسبة لك و لكنها أحيانا تقض مضجعي عندما أفكر فيك .. هل يرضيك هذا أم أنك ترى الأمر على نحو أفضل؟

أدرك أن الأمر مربك لمن يحيطون بي أو على الأقل مثير للتساؤل: متى ستخرج من هذه الحالة و تتحدث أو تكتب عن أشياء أخرى ! لكن الأمر لا يقاس بهذا الشكل ، فالتجربة الحقيقية هي انكسار القلب،  و انكسار القلب لا نشفى منه متى أردنا و لن نشفى منه أبدا و إنما تتشكل به أرواحنا من جديد فتفرز صورا أخرى منا ، ربما في عمل أو كتابة أو أي إسهام في الحياة و لكنه بطعم التجربة.. و أنا لن أتعجل هذا التشكل لروحي مادمت يا أبي هنا تطمئن روحي و تخطو بها إلى المستقبل بقلب يحمل الماضي بكل ما فيه من ثراء.
أما عن صديقتي ، فهي الآن في بلد آخر ، قد أكسبتها تجارب الحياة ثقلا في تجربتها جعلتها تواجه الموت مرات عديدة دون خوف .. ربما لو لم تكن قد واجهته في موت أبيها لما كانت بهذا الثبات الآن.

آية علم الدين

٢٠١٥-٠٥-١٥

إنها الثالثة و الثلاثون ، و لكننا لم نكتمل!

كانت إحدى ليالي رمضان عندما كنت في الثالثة عشرة من عمري تقريباَ ، ليلة من تلك الليالي التي يختارها أبي من ضمن ليالي رمضان ليصلي معنا التراويح في البيت أنا و أمي و أختي و في الإستراحة بين الأربعة ركعات الأولى  و الأربعة الأخيرة يطلب مني أن أحضر كتاب رياض الصالحين و أفتحه على أي حديث و أقرأه حتى يشرحه لنا و يسهب في موضوعه ، كان الحديث عن العجوز التي أتت للرسول صلى الله عليه و سلم تسأله أن يدعو لها لتكون من أهل الجنة فمازحها الرسول صلى الله عليه و سلم قائلا "لا يدخل الجنة عجوز" فبكت العجوز ثم أخبر أصحابه عليه الصلاة و السلام أن يخبروها بأنها ليست يومئذ عجوز ، إنها يومئذ شابة ، إن الله عز و جل يقول : "إنُّاأنشأناهن إنشاءً"
فسألت أبي: كم يكون عمرنا في الجنة؟
أبي: 33 سنة
أنا : لماذا؟
أبي: لأنه عمر سيدنا عيسى عليه السلام عندمارفع .
لم أفهم وقتها تحديدا لم ثلاثة و ثلاثين بالذات و لماذا ليست خمسة و ثلاثين مثلا أو خمسة و عشرين؟ لكن ما كان يهمني حقا وقتها هو هل سأعيش حتى أتمم هذا العمر الذي ظننته وقتها كبير؟ و كيف سيكون حالي وقتها؟
حسناَ .. اليوم أتم عامي الثالث و الثلاثين !
يقول مفسر : أن هذا العمر فيه مِن الحكمة مالا يخفى؛ فإنه أبلغ وأكمل في استيفاء اللذَّات؛ لأنه أكمل سن القوة.
و يقول آخر : إنه من أفضل سنيِّ عمر الإنسان في القوة والنضارة وغيرها؛ مما هو مَظان التمتع بالحياة، وبلا شك كلُّ هذا له مردودٌ مباشرٌ في سعادة الإنسان.
و أقول أنا : كلام مفسرين مالناش دعوة بيه.
اليوم أتم عامي الثالث و الثلاثين .. أقل دهشة و أقل قدرة على التكيف مع مستجدات الحياة ، يقولون هو سن الإكتمال و أعلم أنه لكل شئ إذا ما تم نقصان فهل أنتظر نقصاناَ لما لم يكتمل بعد؟!
لم تكتمل السعادة كما يقولون و لا أظنها تكتمل في هذه الدنيا ، و هذه القدرة التى يتحدث عنها المحللون –إن وجدت- فهي كالإدراك ليس فيها أي نبل و هي لا تعني الوصول ، فما الذي يعنيه أنني أستطيع صعود الجبل خلال ثماني ساعات إن مرت الأربع ساعات الأولى بي أحاول أن أعرف بداية طريقالصعود ؟ فما بالك إذا كنت أحيانا لا أعرف إن كنت بدأت حقاً من البداية الصحيحة له أم لا!
لو كنا في زمن آخر و ظروف و بلاد أخرى لكنا في هذا العمر نشد أوتاد خيامنا فوق الجبل استعداداً لاستقبال عمر النبوة الذي قارب ، لكُنًّا على الأقل في منتصف الطريق و لكننا نعرف وجهتنا و نراها رؤيا العين لا يفصلنا عنهاغير خطوات تتناسب أعدادها مع صعود عزائمنا و هبوطها ، أما و أننا في بلاد قدر لها أن تعيش في دائرة التيه فلابد لمساراتنا أن تتخذ شكل المتاهات تكيفاً.

أشعر أنّي و جيلي و مسارات حياتنا الشخصية ونجاحاتنا حقاً نشبه ثورتنا التي لم تكتمل ، فلا هي بالتي تحققت تحققاً يغيظ العدا ولا هي بالتي ماتت و انخمدت أوراها في قلوبنا .. هذه الثورة التي لم تكتمل هي حمل تنوء به كواهلنا فلا نستطيع نفضه عنا و لا التنصل منه و لا نستطيع الاستمرار في حياتنا و هو واقف بيننا و بين طَرقِ أبواب الحياة الأخرى.
كذا أحلامنا الشخصية البسيطة ، من حقق جزءاً منها يساوره الشك أحياناً كثيرة في جدوى ما حقق للبشرية بحلمه الصغير ، عن مدى إخلاصه للقضية و عن جدوى القضية نفسها !
يقول أبي في الدعاء : "اللهم اجعلنا من عبادك الأتقياء الأنقياء الأخفياء"
فنردد : "آمين"
أتعجب من هذه "الأخفياء" التي يصر دائماً عليها في دعائه ، و لم نخفي أعمالنا إن كانت صالحة؟ و ما الضير أن تكون في العلن فنكثر بها سواد الصلاح في الدنيا .. فيرد الصوت داخلي :" لأن الأعمال بالنيات و لأن النية إن خالطت شهوة الشهرة فسدت" فأدعو الله ألا يكون هذامصير أحلامنا التي لا زالت في أرحام النوايا.
عاش أبي –رحمه الله- من العمر سبعة و ستين عاماً ، و رغم أنه تقاعد سبعة أعوام تقريباً إلا أنه لم يذق هذه الراحة التي ينعم بها المتقاعدون ، لم أره يوماً إلا منشغلاً بشئ حتى الثمالة ، إما سعياً على مصالحنا أو عبادة أو قراءة أو بحثا نهماً.. لا يكل ، كنت أتشوق لهذا اليوم الذي تحلم به أمي أن يطمئنا علينا ثم يذهبا لرحلة العمرة كل عام سوياَ ، و لكن الله قدرله أن ينجز رسالته في الدنيا ثم ينتقل إلى جوار الصالحين ممن أحبهم و تشوق لرؤياهم، لم ير ثمرة زرعه و لم يجف عرقه حتى يستوفي حقه في الدنيا ، قد آثر و أوثر له أن يأخذ حقه كاملاَ في الآخرة.
ربما يعوزنا من العمر أضعافا مما عشناه لكي نكتمل فنصل لثلاثة و ثلاثين تصلحنا لدخول الجنة –برحمة الله لا بأعمالنا- ، و ربما لا تتفهم بشريتي أن نكون جميعاً أنا و جدتي التي لم أرها قط و لكني أتوق لأن أراها في الجنة و أتعجب كيف سأشعر أنها جدتي و هي في نفس عمري وقتها الحكمة من هذا العمر تحديداً ، و ربما لست راضية عن نفسي تمام الرضا الآن حتى أتصورني في الجنة –إن شاء الله- كما أنا الآن و لكني أدرك أنني لن أموت حتى  أستوفي رزقي كاملاً من الفرص.
فيكفينا من الحياة أننا نفضل الموت في الطريق كما مات أباؤنا على أن نموت قبل الموت بالتقاعد ، و يكفينا من الحياة أننا من هؤلاء القلقين المثابرين و إن تكبدوا منها النوازل ، و يكفينا من الثورة أنها لم تكن في حياتنا نزوة نتراجع عنها و إنما طريقاً نسلكه على أنفسنا أولاً و إن ضاقت دروبه بنا حد الاختناق.
فالحمد لله على ما انقضى ، و الله المستعان على ما هو آت.


آية علم الدين
13/5/2015

٢٠١٥-٠١-١٤

عن إجابة سؤال أبي "هي الدنيا فيها كام مزبلة؟"



-أسير مع أبي في ميدان لا أعرف اسمه فلم أكن بعد وقتها قد أتممت عامي الثاني عشر ، يسألني أبي ممتحناً : "ده ميدان ايه يا آية؟"
أنا - "أحمد حلمي؟"
أبي- "غلط ده ميدان العتبة .. آية .. هي الدنيا فيها كام مزبلة؟"
لم أعتد من أبي هذه التعبيرات الصادمة ، فدائما كان يختار من القول أحسنه و أبلغه فقد كان معلماً ناجحاً للغة العربية محباً لها ، لذا أجبته بسؤالي : "و أنا ليه أعد فيها كام مزبلة؟ ما أعد الجناين اللى فيها أحسن؟"
يجيبني أبي :"مش هتعرفي فيها كام جنينة غير لما تعرفي فيها كام مزبلة.. هي دي الدنيا .. أنا مش عاوزك تبقى ساذجة"

أجل كان يحدثني أبي بهذه اللغة منذ كنت صغيرة ، لغة الصديق الناصح أحياناً و المستشير أحياناً أخرى ، لم أشعر يوماً أنه يستهين بعقلي الصغير بل كان على صغر أعمارنا يجمعنا فيستشيرنا في أمور البيت و أحيانا في أمور عمله أو علاقاته بالناس ، كان أبي يحضر في كل التفاصيل و يحضرنا معه.

-في إحدى سنوات المرحلة الإعدادية كانت تدرسني اللغة العربية معلمة مشهورة باستغلال الطلبة لإعطائهم الدروس الخصوصية ، كانت تهدد بعض الفتيات بالرسوب إذا لم يأخذوا معها دروسا خصوصية و قد مارست هذا الأمر مع إحدى صديقاتي ، طلبتُ من صديقتي أن تبلغ الإدارة فخافت فما كان مني -حيث كنت وقتها رئيسة الفصل- إلا أن توجهت بالشكوى للإدارة على مرأي و مسمع من الفصل كله و به بعض الفتيات التابعات لها ، طلبت المديرة شهادة بعض الفتيات فخفن فأخبرتهن المديرة بأنها مستعدة لسماع شكواهن منفردات في مكتبها .. عندما حكيت الأمر لأمي خافت علي خوف الأم من مدرسة بلا ضمير قد تترصدني بالمضايقات طوال العام -وقد حدث- و لكن أبي كان له رأي آخر .. كان فخورا بما فعلته مشجعا ، أخذ يحذرني مما قد تفعله هذه المدرسة و يخطط لي كيف سأتصرف عندما يفتح التحقيق في الأمر ، كنت أرى في عينيه لمعة الفخر بابنته "البريئة" كيف أصبحت تضع نفسها في المآزق دفاعا عن المباديْ التى رباها عليها .

-يقول أبي عندما يُسأل لماذا لم يسافر للإعارة كجميع المدرسين إلا مرة واحدة أصر أن نصطحبه فيها و نحن صغار جداً: أنا عاوزكو تتربوا هنا مش عاوز فلوس ..إنتو استثماري في الحياة...فأدعوا الله أن يبارك في غرسك حتى تنال ثوابه مضاعفاَ يا أبي.

- في عام 2008 عرضت علي فرصة للسفر إلى إحدى الدول العربية ، لم يكن الأمر في تخطيطي لكن إصرار بعض المقربين وضعني في حيرة من أمرى ، كان أبي يثق في قراراتي بشكل كبير ، شكل كان يشعرني بعظم المسئولية بل و ثقل حملها أحيانا، لم يكن بالمفتش الخانق و لا بالمفرط اللا مبالي ، بلا على عكس الاثنين ..كان يثق في علاقة الصداقة التي بناها معنا منذ الصغر فيحترم مساحاتنا الخاصة وقت الرغبة في الإعتماد على النفس و يمنحنا إصغاءه و قلبه و اهتمامه عندما نأتيه طالبين المشورة .
لم يعطني أبي رأيه مباشرة فقد كان يعرف أني سأنفذ ماسيقول أيا كان و هو لا يريد مني ذلك ، أجابني ببساطة : إنتى تقدري تنفذي أحلامك هنا أو هناك لكن قارني و شوفي ايه اللى ممكن يضيف لك خبرة أكتر ..يمكن يكون السفر علشان تعرفي الدنيا فيها كام مزبلة و يمكن يكون استكمال اللى بدأتيه هنا... فاخترت إحصاء مزابل الدنيا بالسفر لعل التجربة تكشف أفاقا جديدة ، وافقت أمي على مضض بعد أن أقنعتها و اتفقت معها ألا نُصَعِب لحظة الوداع بدموع الفراق .. استطعنا أنا و أمي أن نكبح جماح دموعنا لكن أبي فاجئني عندما لم يستطع !!

هكذا كان ..حنوناً مربياً لا ينفصل حنانه الجم عن رغبته في تربيتنا ناجحين.


- تخبرني صديقتي بأنها تريد الإستقلال عن عائلتها لإحساسها بالإختناق من الحياة معهم، أفاجأ بتخطيطها المحكم للأمر :"مرتبي يكفيني جدا ، و هازورهم كل ويك إند .. إفرضي إني متجوزة مانا كنت هاعمل كده بس الفرق إن كان هيبقى فيه واحد بيتحكم فيه بدالهم ، أنا خلاص كبرت .. ماتخافيش مش هانحرف ..ماهي النظرة دي اللى مخلياني مش عارفة أنفذ اللى مقتنعة بيه كل الناس هتفتكرني بوظت محدش هيصدق إنها مجرد رغبة في الحرية بعيد عن التحكمات الفارغة"

أتأمل كلامها .. لم أفكر يوما أن أفعل مثلها و إن عرض على الأمر ما فعلت .. لم أشعر يوماً من أبي بذلك الإختناق الذي تشعر به صديقاتي من آبائهن .. يظن الآباء أن بناتهم ستظل على احتمالهن للتحكم أبد العمر ، لكن أمورا أعقد تتكون في عقولهن إذا لم يكن الأساس هو الصداقة و الثقة غير المفرطين...أحمد الله على أب كفاني به الله تجارب صديقاتي المؤلمة مع التحكم أحيانا و الإهمال أحيانا أخرى.

- يقول لي أبي عندما يراني منهمكة في عمل ما : "يا سلام عليكي يا آية لما بتخلصي" ..يصر دائما على استخدام كلمة "إخلاص" بديلا عن كل مرادفاتها لسبب لم أكن أعرفه إلا بعد وفاته .. كانت حياته كلها ملخصها "الإخلاص" ..في العمل ، في تربيتنا ، في علاقته بربه ، في دموعه التي تغالبه عندما يتكلم عن النبي صلى الله عليه و سلم ..في كل شئ كان يشع إخلاصاً.

فسلام و رحمة من الله خاصة على من أحسن لي من البدء فأحسن اختيار أمي و أحسن اختيار إسمي و أحسن مطعمي فلم يطعمني إلا الحلال و أخلص لله في رعايتي حتى صرت أراه في كل شئ يوصل لله و رسوله صلى الله عليه و سلم.
و سلام و رحمة من الله على من على قدر ما أخبرته من كلمات الحب في حياته أشعر دائما أنني لم أستطع أن أعبر له عنها بالقدر الكافي فأطلب من الله أن يوصلها له مع كل دعاء ينطق به لساني و كل فاتحة أهديها لروحه.


أما عن إجابة سؤالك يا أبي : لم أعرف الإجابة بعد لكنني لازلت أسعى لمعرفتها و لكن السؤال الذي أتمنى أن أسأله لك يا أبي عندما أراك إن شاء الله : هي الجنة فيها كام جنينة؟
:)