٢٠١٥-٠٥-١٥

إنها الثالثة و الثلاثون ، و لكننا لم نكتمل!

كانت إحدى ليالي رمضان عندما كنت في الثالثة عشرة من عمري تقريباَ ، ليلة من تلك الليالي التي يختارها أبي من ضمن ليالي رمضان ليصلي معنا التراويح في البيت أنا و أمي و أختي و في الإستراحة بين الأربعة ركعات الأولى  و الأربعة الأخيرة يطلب مني أن أحضر كتاب رياض الصالحين و أفتحه على أي حديث و أقرأه حتى يشرحه لنا و يسهب في موضوعه ، كان الحديث عن العجوز التي أتت للرسول صلى الله عليه و سلم تسأله أن يدعو لها لتكون من أهل الجنة فمازحها الرسول صلى الله عليه و سلم قائلا "لا يدخل الجنة عجوز" فبكت العجوز ثم أخبر أصحابه عليه الصلاة و السلام أن يخبروها بأنها ليست يومئذ عجوز ، إنها يومئذ شابة ، إن الله عز و جل يقول : "إنُّاأنشأناهن إنشاءً"
فسألت أبي: كم يكون عمرنا في الجنة؟
أبي: 33 سنة
أنا : لماذا؟
أبي: لأنه عمر سيدنا عيسى عليه السلام عندمارفع .
لم أفهم وقتها تحديدا لم ثلاثة و ثلاثين بالذات و لماذا ليست خمسة و ثلاثين مثلا أو خمسة و عشرين؟ لكن ما كان يهمني حقا وقتها هو هل سأعيش حتى أتمم هذا العمر الذي ظننته وقتها كبير؟ و كيف سيكون حالي وقتها؟
حسناَ .. اليوم أتم عامي الثالث و الثلاثين !
يقول مفسر : أن هذا العمر فيه مِن الحكمة مالا يخفى؛ فإنه أبلغ وأكمل في استيفاء اللذَّات؛ لأنه أكمل سن القوة.
و يقول آخر : إنه من أفضل سنيِّ عمر الإنسان في القوة والنضارة وغيرها؛ مما هو مَظان التمتع بالحياة، وبلا شك كلُّ هذا له مردودٌ مباشرٌ في سعادة الإنسان.
و أقول أنا : كلام مفسرين مالناش دعوة بيه.
اليوم أتم عامي الثالث و الثلاثين .. أقل دهشة و أقل قدرة على التكيف مع مستجدات الحياة ، يقولون هو سن الإكتمال و أعلم أنه لكل شئ إذا ما تم نقصان فهل أنتظر نقصاناَ لما لم يكتمل بعد؟!
لم تكتمل السعادة كما يقولون و لا أظنها تكتمل في هذه الدنيا ، و هذه القدرة التى يتحدث عنها المحللون –إن وجدت- فهي كالإدراك ليس فيها أي نبل و هي لا تعني الوصول ، فما الذي يعنيه أنني أستطيع صعود الجبل خلال ثماني ساعات إن مرت الأربع ساعات الأولى بي أحاول أن أعرف بداية طريقالصعود ؟ فما بالك إذا كنت أحيانا لا أعرف إن كنت بدأت حقاً من البداية الصحيحة له أم لا!
لو كنا في زمن آخر و ظروف و بلاد أخرى لكنا في هذا العمر نشد أوتاد خيامنا فوق الجبل استعداداً لاستقبال عمر النبوة الذي قارب ، لكُنًّا على الأقل في منتصف الطريق و لكننا نعرف وجهتنا و نراها رؤيا العين لا يفصلنا عنهاغير خطوات تتناسب أعدادها مع صعود عزائمنا و هبوطها ، أما و أننا في بلاد قدر لها أن تعيش في دائرة التيه فلابد لمساراتنا أن تتخذ شكل المتاهات تكيفاً.

أشعر أنّي و جيلي و مسارات حياتنا الشخصية ونجاحاتنا حقاً نشبه ثورتنا التي لم تكتمل ، فلا هي بالتي تحققت تحققاً يغيظ العدا ولا هي بالتي ماتت و انخمدت أوراها في قلوبنا .. هذه الثورة التي لم تكتمل هي حمل تنوء به كواهلنا فلا نستطيع نفضه عنا و لا التنصل منه و لا نستطيع الاستمرار في حياتنا و هو واقف بيننا و بين طَرقِ أبواب الحياة الأخرى.
كذا أحلامنا الشخصية البسيطة ، من حقق جزءاً منها يساوره الشك أحياناً كثيرة في جدوى ما حقق للبشرية بحلمه الصغير ، عن مدى إخلاصه للقضية و عن جدوى القضية نفسها !
يقول أبي في الدعاء : "اللهم اجعلنا من عبادك الأتقياء الأنقياء الأخفياء"
فنردد : "آمين"
أتعجب من هذه "الأخفياء" التي يصر دائماً عليها في دعائه ، و لم نخفي أعمالنا إن كانت صالحة؟ و ما الضير أن تكون في العلن فنكثر بها سواد الصلاح في الدنيا .. فيرد الصوت داخلي :" لأن الأعمال بالنيات و لأن النية إن خالطت شهوة الشهرة فسدت" فأدعو الله ألا يكون هذامصير أحلامنا التي لا زالت في أرحام النوايا.
عاش أبي –رحمه الله- من العمر سبعة و ستين عاماً ، و رغم أنه تقاعد سبعة أعوام تقريباً إلا أنه لم يذق هذه الراحة التي ينعم بها المتقاعدون ، لم أره يوماً إلا منشغلاً بشئ حتى الثمالة ، إما سعياً على مصالحنا أو عبادة أو قراءة أو بحثا نهماً.. لا يكل ، كنت أتشوق لهذا اليوم الذي تحلم به أمي أن يطمئنا علينا ثم يذهبا لرحلة العمرة كل عام سوياَ ، و لكن الله قدرله أن ينجز رسالته في الدنيا ثم ينتقل إلى جوار الصالحين ممن أحبهم و تشوق لرؤياهم، لم ير ثمرة زرعه و لم يجف عرقه حتى يستوفي حقه في الدنيا ، قد آثر و أوثر له أن يأخذ حقه كاملاَ في الآخرة.
ربما يعوزنا من العمر أضعافا مما عشناه لكي نكتمل فنصل لثلاثة و ثلاثين تصلحنا لدخول الجنة –برحمة الله لا بأعمالنا- ، و ربما لا تتفهم بشريتي أن نكون جميعاً أنا و جدتي التي لم أرها قط و لكني أتوق لأن أراها في الجنة و أتعجب كيف سأشعر أنها جدتي و هي في نفس عمري وقتها الحكمة من هذا العمر تحديداً ، و ربما لست راضية عن نفسي تمام الرضا الآن حتى أتصورني في الجنة –إن شاء الله- كما أنا الآن و لكني أدرك أنني لن أموت حتى  أستوفي رزقي كاملاً من الفرص.
فيكفينا من الحياة أننا نفضل الموت في الطريق كما مات أباؤنا على أن نموت قبل الموت بالتقاعد ، و يكفينا من الحياة أننا من هؤلاء القلقين المثابرين و إن تكبدوا منها النوازل ، و يكفينا من الثورة أنها لم تكن في حياتنا نزوة نتراجع عنها و إنما طريقاً نسلكه على أنفسنا أولاً و إن ضاقت دروبه بنا حد الاختناق.
فالحمد لله على ما انقضى ، و الله المستعان على ما هو آت.


آية علم الدين
13/5/2015