٢٠١٥-٠١-١٤

عن إجابة سؤال أبي "هي الدنيا فيها كام مزبلة؟"



-أسير مع أبي في ميدان لا أعرف اسمه فلم أكن بعد وقتها قد أتممت عامي الثاني عشر ، يسألني أبي ممتحناً : "ده ميدان ايه يا آية؟"
أنا - "أحمد حلمي؟"
أبي- "غلط ده ميدان العتبة .. آية .. هي الدنيا فيها كام مزبلة؟"
لم أعتد من أبي هذه التعبيرات الصادمة ، فدائما كان يختار من القول أحسنه و أبلغه فقد كان معلماً ناجحاً للغة العربية محباً لها ، لذا أجبته بسؤالي : "و أنا ليه أعد فيها كام مزبلة؟ ما أعد الجناين اللى فيها أحسن؟"
يجيبني أبي :"مش هتعرفي فيها كام جنينة غير لما تعرفي فيها كام مزبلة.. هي دي الدنيا .. أنا مش عاوزك تبقى ساذجة"

أجل كان يحدثني أبي بهذه اللغة منذ كنت صغيرة ، لغة الصديق الناصح أحياناً و المستشير أحياناً أخرى ، لم أشعر يوماً أنه يستهين بعقلي الصغير بل كان على صغر أعمارنا يجمعنا فيستشيرنا في أمور البيت و أحيانا في أمور عمله أو علاقاته بالناس ، كان أبي يحضر في كل التفاصيل و يحضرنا معه.

-في إحدى سنوات المرحلة الإعدادية كانت تدرسني اللغة العربية معلمة مشهورة باستغلال الطلبة لإعطائهم الدروس الخصوصية ، كانت تهدد بعض الفتيات بالرسوب إذا لم يأخذوا معها دروسا خصوصية و قد مارست هذا الأمر مع إحدى صديقاتي ، طلبتُ من صديقتي أن تبلغ الإدارة فخافت فما كان مني -حيث كنت وقتها رئيسة الفصل- إلا أن توجهت بالشكوى للإدارة على مرأي و مسمع من الفصل كله و به بعض الفتيات التابعات لها ، طلبت المديرة شهادة بعض الفتيات فخفن فأخبرتهن المديرة بأنها مستعدة لسماع شكواهن منفردات في مكتبها .. عندما حكيت الأمر لأمي خافت علي خوف الأم من مدرسة بلا ضمير قد تترصدني بالمضايقات طوال العام -وقد حدث- و لكن أبي كان له رأي آخر .. كان فخورا بما فعلته مشجعا ، أخذ يحذرني مما قد تفعله هذه المدرسة و يخطط لي كيف سأتصرف عندما يفتح التحقيق في الأمر ، كنت أرى في عينيه لمعة الفخر بابنته "البريئة" كيف أصبحت تضع نفسها في المآزق دفاعا عن المباديْ التى رباها عليها .

-يقول أبي عندما يُسأل لماذا لم يسافر للإعارة كجميع المدرسين إلا مرة واحدة أصر أن نصطحبه فيها و نحن صغار جداً: أنا عاوزكو تتربوا هنا مش عاوز فلوس ..إنتو استثماري في الحياة...فأدعوا الله أن يبارك في غرسك حتى تنال ثوابه مضاعفاَ يا أبي.

- في عام 2008 عرضت علي فرصة للسفر إلى إحدى الدول العربية ، لم يكن الأمر في تخطيطي لكن إصرار بعض المقربين وضعني في حيرة من أمرى ، كان أبي يثق في قراراتي بشكل كبير ، شكل كان يشعرني بعظم المسئولية بل و ثقل حملها أحيانا، لم يكن بالمفتش الخانق و لا بالمفرط اللا مبالي ، بلا على عكس الاثنين ..كان يثق في علاقة الصداقة التي بناها معنا منذ الصغر فيحترم مساحاتنا الخاصة وقت الرغبة في الإعتماد على النفس و يمنحنا إصغاءه و قلبه و اهتمامه عندما نأتيه طالبين المشورة .
لم يعطني أبي رأيه مباشرة فقد كان يعرف أني سأنفذ ماسيقول أيا كان و هو لا يريد مني ذلك ، أجابني ببساطة : إنتى تقدري تنفذي أحلامك هنا أو هناك لكن قارني و شوفي ايه اللى ممكن يضيف لك خبرة أكتر ..يمكن يكون السفر علشان تعرفي الدنيا فيها كام مزبلة و يمكن يكون استكمال اللى بدأتيه هنا... فاخترت إحصاء مزابل الدنيا بالسفر لعل التجربة تكشف أفاقا جديدة ، وافقت أمي على مضض بعد أن أقنعتها و اتفقت معها ألا نُصَعِب لحظة الوداع بدموع الفراق .. استطعنا أنا و أمي أن نكبح جماح دموعنا لكن أبي فاجئني عندما لم يستطع !!

هكذا كان ..حنوناً مربياً لا ينفصل حنانه الجم عن رغبته في تربيتنا ناجحين.


- تخبرني صديقتي بأنها تريد الإستقلال عن عائلتها لإحساسها بالإختناق من الحياة معهم، أفاجأ بتخطيطها المحكم للأمر :"مرتبي يكفيني جدا ، و هازورهم كل ويك إند .. إفرضي إني متجوزة مانا كنت هاعمل كده بس الفرق إن كان هيبقى فيه واحد بيتحكم فيه بدالهم ، أنا خلاص كبرت .. ماتخافيش مش هانحرف ..ماهي النظرة دي اللى مخلياني مش عارفة أنفذ اللى مقتنعة بيه كل الناس هتفتكرني بوظت محدش هيصدق إنها مجرد رغبة في الحرية بعيد عن التحكمات الفارغة"

أتأمل كلامها .. لم أفكر يوما أن أفعل مثلها و إن عرض على الأمر ما فعلت .. لم أشعر يوماً من أبي بذلك الإختناق الذي تشعر به صديقاتي من آبائهن .. يظن الآباء أن بناتهم ستظل على احتمالهن للتحكم أبد العمر ، لكن أمورا أعقد تتكون في عقولهن إذا لم يكن الأساس هو الصداقة و الثقة غير المفرطين...أحمد الله على أب كفاني به الله تجارب صديقاتي المؤلمة مع التحكم أحيانا و الإهمال أحيانا أخرى.

- يقول لي أبي عندما يراني منهمكة في عمل ما : "يا سلام عليكي يا آية لما بتخلصي" ..يصر دائما على استخدام كلمة "إخلاص" بديلا عن كل مرادفاتها لسبب لم أكن أعرفه إلا بعد وفاته .. كانت حياته كلها ملخصها "الإخلاص" ..في العمل ، في تربيتنا ، في علاقته بربه ، في دموعه التي تغالبه عندما يتكلم عن النبي صلى الله عليه و سلم ..في كل شئ كان يشع إخلاصاً.

فسلام و رحمة من الله خاصة على من أحسن لي من البدء فأحسن اختيار أمي و أحسن اختيار إسمي و أحسن مطعمي فلم يطعمني إلا الحلال و أخلص لله في رعايتي حتى صرت أراه في كل شئ يوصل لله و رسوله صلى الله عليه و سلم.
و سلام و رحمة من الله على من على قدر ما أخبرته من كلمات الحب في حياته أشعر دائما أنني لم أستطع أن أعبر له عنها بالقدر الكافي فأطلب من الله أن يوصلها له مع كل دعاء ينطق به لساني و كل فاتحة أهديها لروحه.


أما عن إجابة سؤالك يا أبي : لم أعرف الإجابة بعد لكنني لازلت أسعى لمعرفتها و لكن السؤال الذي أتمنى أن أسأله لك يا أبي عندما أراك إن شاء الله : هي الجنة فيها كام جنينة؟
:)