كانت إحدى ليالي رمضان عندما كنت في الثالثة
عشرة من عمري تقريباَ ، ليلة من تلك الليالي التي يختارها أبي من ضمن ليالي
رمضان ليصلي معنا التراويح في البيت أنا و أمي و أختي و في الإستراحة بين
الأربعة ركعات الأولى و الأربعة الأخيرة يطلب مني أن أحضر كتاب رياض
الصالحين و أفتحه على أي حديث و أقرأه حتى يشرحه لنا و يسهب في موضوعه ،
كان الحديث عن العجوز التي أتت للرسول صلى الله عليه و سلم تسأله أن يدعو
لها لتكون من أهل الجنة فمازحها الرسول صلى الله عليه و سلم قائلا "لا يدخل
الجنة عجوز" فبكت العجوز ثم أخبر أصحابه عليه الصلاة و السلام أن يخبروها
بأنها ليست يومئذ عجوز ، إنها يومئذ شابة ، إن الله عز و جل يقول :
"إنُّاأنشأناهن إنشاءً"
فسألت أبي: كم يكون عمرنا في الجنة؟
أبي: 33 سنة
أنا : لماذا؟
أبي: لأنه عمر سيدنا عيسى عليه السلام عندمارفع .
لم
أفهم وقتها تحديدا لم ثلاثة و ثلاثين بالذات و لماذا ليست خمسة و ثلاثين
مثلا أو خمسة و عشرين؟ لكن ما كان يهمني حقا وقتها هو هل سأعيش حتى أتمم
هذا العمر الذي ظننته وقتها كبير؟ و كيف سيكون حالي وقتها؟
حسناَ .. اليوم أتم عامي الثالث و الثلاثين !
يقول مفسر : أن هذا العمر فيه مِن الحكمة مالا يخفى؛ فإنه أبلغ وأكمل في استيفاء اللذَّات؛ لأنه أكمل سن القوة.
و يقول آخر : إنه من أفضل سنيِّ عمر الإنسان في القوة والنضارة وغيرها؛ مما هو مَظان التمتع بالحياة، وبلا شك كلُّ هذا له مردودٌ مباشرٌ في سعادة الإنسان.
و يقول آخر : إنه من أفضل سنيِّ عمر الإنسان في القوة والنضارة وغيرها؛ مما هو مَظان التمتع بالحياة، وبلا شك كلُّ هذا له مردودٌ مباشرٌ في سعادة الإنسان.
و أقول أنا : كلام مفسرين مالناش دعوة بيه.
اليوم
أتم عامي الثالث و الثلاثين .. أقل دهشة و أقل قدرة على التكيف مع مستجدات
الحياة ، يقولون هو سن الإكتمال و أعلم أنه لكل شئ إذا ما تم نقصان فهل
أنتظر نقصاناَ لما لم يكتمل بعد؟!
لم تكتمل
السعادة كما يقولون و لا أظنها تكتمل في هذه الدنيا ، و هذه القدرة التى
يتحدث عنها المحللون –إن وجدت- فهي كالإدراك ليس فيها أي نبل و هي لا تعني
الوصول ، فما الذي يعنيه أنني أستطيع صعود الجبل خلال ثماني ساعات إن مرت
الأربع ساعات الأولى بي أحاول أن أعرف بداية طريقالصعود ؟ فما بالك إذا كنت
أحيانا لا أعرف إن كنت بدأت حقاً من البداية الصحيحة له أم لا!
لو
كنا في زمن آخر و ظروف و بلاد أخرى لكنا في هذا العمر نشد أوتاد خيامنا
فوق الجبل استعداداً لاستقبال عمر النبوة الذي قارب ، لكُنًّا على الأقل في
منتصف الطريق و لكننا نعرف وجهتنا و نراها رؤيا العين لا يفصلنا عنهاغير
خطوات تتناسب أعدادها مع صعود عزائمنا و هبوطها ، أما و أننا في بلاد قدر
لها أن تعيش في دائرة التيه فلابد لمساراتنا أن تتخذ شكل المتاهات تكيفاً.
أشعر
أنّي و جيلي و مسارات حياتنا الشخصية ونجاحاتنا حقاً نشبه ثورتنا التي لم
تكتمل ، فلا هي بالتي تحققت تحققاً يغيظ العدا ولا هي بالتي ماتت و انخمدت
أوراها في قلوبنا .. هذه الثورة التي لم تكتمل هي حمل تنوء به كواهلنا فلا
نستطيع نفضه عنا و لا التنصل منه و لا نستطيع الاستمرار في حياتنا و هو
واقف بيننا و بين طَرقِ أبواب الحياة الأخرى.
كذا
أحلامنا الشخصية البسيطة ، من حقق جزءاً منها يساوره الشك أحياناً كثيرة
في جدوى ما حقق للبشرية بحلمه الصغير ، عن مدى إخلاصه للقضية و عن جدوى
القضية نفسها !
يقول أبي في الدعاء : "اللهم اجعلنا من عبادك الأتقياء الأنقياء الأخفياء"
فنردد : "آمين"
أتعجب
من هذه "الأخفياء" التي يصر دائماً عليها في دعائه ، و لم نخفي أعمالنا إن
كانت صالحة؟ و ما الضير أن تكون في العلن فنكثر بها سواد الصلاح في الدنيا
.. فيرد الصوت داخلي :" لأن الأعمال بالنيات و لأن النية إن خالطت شهوة
الشهرة فسدت" فأدعو الله ألا يكون هذامصير أحلامنا التي لا زالت في أرحام
النوايا.
عاش أبي –رحمه الله- من العمر سبعة
و ستين عاماً ، و رغم أنه تقاعد سبعة أعوام تقريباً إلا أنه لم يذق هذه
الراحة التي ينعم بها المتقاعدون ، لم أره يوماً إلا منشغلاً بشئ حتى
الثمالة ، إما سعياً على مصالحنا أو عبادة أو قراءة أو بحثا نهماً.. لا يكل
، كنت أتشوق لهذا اليوم الذي تحلم به أمي أن يطمئنا علينا ثم يذهبا لرحلة
العمرة كل عام سوياَ ، و لكن الله قدرله أن ينجز رسالته في الدنيا ثم ينتقل
إلى جوار الصالحين ممن أحبهم و تشوق لرؤياهم، لم ير ثمرة زرعه و لم يجف
عرقه حتى يستوفي حقه في الدنيا ، قد آثر و أوثر له أن يأخذ حقه كاملاَ في
الآخرة.
ربما يعوزنا من العمر أضعافا مما
عشناه لكي نكتمل فنصل لثلاثة و ثلاثين تصلحنا لدخول الجنة –برحمة الله لا
بأعمالنا- ، و ربما لا تتفهم بشريتي أن نكون جميعاً أنا و جدتي التي لم
أرها قط و لكني أتوق لأن أراها في الجنة و أتعجب كيف سأشعر أنها جدتي و هي
في نفس عمري وقتها الحكمة من هذا العمر تحديداً ، و ربما لست راضية عن نفسي
تمام الرضا الآن حتى أتصورني في الجنة –إن شاء الله- كما أنا الآن و لكني
أدرك أنني لن أموت حتى أستوفي رزقي كاملاً من الفرص.
فيكفينا
من الحياة أننا نفضل الموت في الطريق كما مات أباؤنا على أن نموت قبل
الموت بالتقاعد ، و يكفينا من الحياة أننا من هؤلاء القلقين المثابرين و إن
تكبدوا منها النوازل ، و يكفينا من الثورة أنها لم تكن في حياتنا نزوة
نتراجع عنها و إنما طريقاً نسلكه على أنفسنا أولاً و إن ضاقت دروبه بنا حد
الاختناق.
فالحمد لله على ما انقضى ، و الله المستعان على ما هو آت.
آية علم الدين
13/5/2015
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق