عاشت مي و ماتت دون أن يشعر بها أحدهم
لم يكونا يوما كأي أخ و أخت عاديين ...لقد أقصاهما الثراء عن بعضنا البعض ..دفع به إلى طريق الإدمان و دفع بها إلى العزلة و الاكتئاب
هذا ما كان يذكره " وليد" عن مي أخته الصغرى
دفعه فضوله أن يدخل اليوم غرفتها بعد حادث وفاتها المروع منذ شهرين ...شهرين كاملين لم يدخل أحد غرفتها غير الخادمة التى لا تقضي فيها أكثر من ربع الساعة تنفض الغبار عن أشيائها ثم تغلقها مرة أخرى منفذة تعليمات أمه
تسلل إلى غرفة مي في آخر الممر ...فتح الباب الخشبي بهدوء ...ثم دخل ليكتشف انه لم يدخل غرفة أخته منذ زمن طويل
فتلك الصورة الكبيرة التى تتصدر غرفتها لم تكن موجودة من قبل .. اقترب من الصورة و أخذ يتأمل وجه اخته ...عيناها الزقاوين و وجهها المستدير و شعرها الأسود المسترسل على كتفيها و كأنه يراهم لأول مرة و كأنهم لملاك كان يعيش معهم دون أن يشعروا
تذكر الهدوء الذي كان سمتها و كلماتها القليلة الرصينة التي كانت تشعره بأنها هي الأكبر دائما رغم كبره عنها بسنتين و نصف ...تذكر رعونته معها و معاملته الفظة و تذكر كيف انقلبت حياته بعد موتها و كيف أصبح موتها سببا في عودته لحياة البشر بعيدا عن حياة الضباع في البارات و أوكار المخدرات
نظر إلى ابتسامتها الخافتة في الصورة و يدها التى تمسك بعروستها القطنية و فستانها الأزرق فتذكر كيف انقلبت حياتها في السنة الماضية قبل رحيلها و كيف كانت دائما الحزن شارده الذهن لا ترتدي إلا السواد
كان حزنها يسبب حيرته إلا انه لم يكن يتوقف عنده كثيرا ، أما الآن بعد أن رحلت فالأمر أصبح مختلفا
تأمل غرفتها المنظمة بشكل دقيق ..لفتت انتباهه كلمة مكتوبة باللغة الانجليزية على ورقة ملصقة باللوحة الصغيرة فوق المكتب الخشبي "love never dies" فتذكر ذلك الشاب الذي حاربت الجميع عندما أتى لخطبتها فور تخرجها من كلية الإعلام منذ حوالى ثلاثة سنوات ..حاول تذكر اسمه فلم تساعده ذاكرته ، كل ما تذكره هو كيف كانت تدافع عنه باستماته و كيف كان حزنها عندما انتهى الأمر برفضه لكونه فقيرا لا يصل إلى ثرائهم و مكانتهم الاجتماعية المرموقة
كانت مي فتاة مسالمة و لكنها عنيدة فآثرت أن تكتفي بحزنها و قرار في داخلها ألا تتخلى عمن أحبت على ألا تغضب والديها ...آثرت انتظاره حتى يصل إلى المكانة التى يريدونها و كان وليد يشعر بذلك كلما تحدثت العائلة عن رفضها لأحد المتقدمين لخطبتها ...كان يشعر وليد بذلك دون أن يتدخل لأن الأمر لم يكن يعنيه و لأنه كان في عالم آخر
"love never dies"
"ترى ماذا كانت تقصد عندما كتبت هذه الكلمة بذلك الخط المميز على لوحتها"
قالها وليد محدثا نفسه و هو يجلس على مكتبها الخشبي
دفعه فضوله ان يفتح حاسوبها الشخصي الموضوع على المكتب بشكل يوحي بحزنه على صاحبته ...ضغط على زر الفتح فإذا برسالة تظهر له تطلب كلمة السر الخاصة بالحاسوب
أمعن في التفكير عله يتوقع ماذا ستكون كلمه السر الخاصة بها ... تري هي "مي 1985 " أم " مي 2009" جرب كل الاشكال النمطية لكلمة السر و لم تفلح أيهم حتى التمعت الكلمة المكتوب على اللوحة في عينيه
" love never dies" و كأنها كانت تعرف أن أحدهم سيحاول أن يدخل عالمها بعد رحيلها فتركت لها كلمة السر مكتوبة بشكل مميز في مكان واضح
بطريقة تلقائية فتح البريد الخاص بها فوجد العديد من الرسائل الواردة النمطية التى لم يقرأ معظمها ...لم تلفت انتباهه إلا رسالة بتاريخ يوم االوفاه
" أعلم أني قد تأخرت كثيرا ، تقبلي اعتذاري لكن الأمر لم يكن سهلا و لم أكن أعلم كيف و متى أستطيع أن ألقاك و لكني أطمئنك أن كل رسائلك طيلة العام الذي افترقناه كانت تصلني... الآن أستطيع أن أخبرك أنه يمكنك اللحاق بي حسب وعدنا القديم .... إلى أن ألقاك لك مني أرق الورود ... امضاء : طارق"
كانت الرسالة على صغرها محيرة بحق ... هي موعد للقاء بينها و بين ذلك الشاب و من الواضح انهما كانا قد افترقا منذ سنة كاملة على وعد بلقاء ربما عندما يستطيع هو تحقيق حلمهما ، تراها كانت تعقد نية الهرب معه ؟؟ لا ...مي لا تفعلها
ضغط وليدعلى زر الرسائل المرسلة عله يجد الرسائل المرسلة منها ربما يكون فيها شيئا ما يفسر الأمر حتى رأى ما أدهشه
وجد في الصندوق ثلاثمائة و خمسة و ستون رسالة لعنوان واحد بواقع رسالة كل يوم إلى نفس البريد الخاص بذلك الشخص ، فتح الرسالة الأخيرة و التى كانت بتاريخ يوم يسبق الحادث ليجدها :
"غدا ، تبدأ السنة الثانية منذ افتراقنا الذي لم ينتصر على مشاعرنا ، ألم يحن موعد اللقاء بعد ، أعلم أنه لكل قدر ميعاد لكني أخاف على صبري من النفاذ و وحشتك لا تنقطع .. لا تنساني ..لازلت أنتظرك"
أخذ وليد في فتح الرسائل واحدة تلو الأخرى فوجد الكثير منها لا يحتوي إلا على عبارات الوحشة و استعجال اللقاء و منها ما فيه سرد لموقف من المواقف اليومية حتى وصل إلى رسالتين الأولى :
" اليوم جرحت يدي اليمنى و سالت منها الدماء عندما رأيت الدماء تذكرت آخر يوم كنا سويا عندما جرحت أنت و سالت دماؤك ... كنت سعيده بأن نتوحد في شعور واحد و ان كان شعور الألم ...تمنيت لو كان الجرح أكثر غورا ...كدت أفعلها بيدي ...لكنى تذكرت أنه ربما عندما أنتهى من ذلك قد لا نلتق مرة أخرى للأبد ...فضمدت الجرح بيدي الأخرى ...ليتك كنت هنا أو كنت أنا عندك لكانت يدك هي من يضمد جرح يدي ...سأصبر عل اللقاء قريب"
أما الثانية فكانت :
" اليوم كنت في مكاننا المعتاد ... شربت الليمون وحدي .. حدثت نفسي بأخباري كما كنت أحدثك .. و في طريق عودتى ذهبت للمكان الذي افترقنا فيه ... فوجدت هديتك ..لم أكن أتوقع أن تتركها لي في هذا المكان مثلما كان اتفاقنا .. كانت اجمل هداياك على الاطلاق –خاتمك الفضي المنقوش عليه جملتنا المفضلة باللغة الانجليزية love never dies ... خلعت كل ما كنت ألبس من خواتم ذهبيه و اكتفيت بخاتمك الفضي .. لن أخلعه من يدي حتى ألقاك ...لا تخف سأحافظ عليه"
مع كل رسالة يفتحها كانت حيرته تزداد ، فكل الرسائل مبهمة و ان كانت بسيطة ، جميعها رسائل تحمل من الشوق ما تحمل إلا أنها لا توضح تفاصيل القصة و لا البلد التى يعيش فيها ذلك الشاب.. و هي لا تمل ارسال الرسائل كل يوم حتى هداه تفكيره لأن يفتح اقدم الرسائل منذ عام عله يستبين الأمر و كانت المفاجأة :
" اليوم ...يومك الأول في عالم جديد ...عالم الموتى ..أعلم أن الأمر ليس سهلا عليك كما هو بالنسبة لي و أعلم أني قادمة إليك لا محالة ... لن أنساك حتى نلتق .. سأذهب كل يوم إلى مكاننا المعتاد ... سأشرب الليمون معك و احدثك عن أمور حياتي .. و في طريقى إلى العودة سأذهب إلى ذلك المكان حيث افترقنا ...سأبحث عن ذكراك ربما تبعث لي هدية تصبرني بها حتى اللقاء ... سوف ارسل كل يوم أخباري و أحوالي و سأنتظر منك الرد بموعد اللقاء ... في الزمان الذي يختاره لنا القدر...المخلصة لك ...مي"
أغلق وليد الحاسوب و قد فاضت عينيه بالدموع ... نزع الورقة المكتوب عليها كلمة السر برفق ثم وضعها في جيب قميصه و قد تعهد أمام نفسه ألا يبوح لأي مخلوق بالكلمة التى عاشت أخته من أجلها و ماتت بسرها ... تعهد أن يخفي هذا السر إلى أن يلقاها.... أو أن تبعث له بموعد اللقاء في رسالة عنوانها " Love never dies"